رحل عنا عم الصحفيين «سعد هجرس»، فى زمن العواصف والأنواء من الصعب أن تفتقد البوصلة والشراع والدفة، كان صوت العقل فى زمن انتصار الحنجرة وتغلب البلطجة والعضلات، أسعدنى الحظ بصحبته فى بيروت لمدة أسبوع فى أحد المؤتمرات، عرفته عن قرب وتعلمت كيف يكون السمو والمنطق والهدوء وقوة الحجة والخصومة الشريفة والإنصات المشارك المستفز لغدة التفكير والنقد، ما زال فى الذاكرة بعض المواقف التى لا أنساها لهذا الرجل العظيم رحمه الله سأحكيها فى نقاط سريعة لرسم بورتريه متواضع لهذا الرجل الجميل: كنت حريصاً على الإفطار معه يومياً، فأجده على الدوام يسبقنى بمواعيده المنضبطة، ولكن المدهش أنه كان يأخذ الأمور بجدية شديدة فى زمن الاستسهال، وبرغم أننا كنا فى شبه رحلة فإنه كان يقرأ بمنتهى الاهتمام أوراق المؤتمر حتى الجلسات التى لن يحضرها وليست فى أجندته، تجده يخطط بالفلوماستر على أهم نقاطها وكأنه ما زال تلميذاً، وعندما ذهبت معه إلى مكتبات شارع الحمرا كان يرشدنى إلى كتب نادرة عن الإسلام السياسى الذى كان يعرف درجة اهتمامى به، كانت معلوماته عن الكتّاب العرب مؤلفى تلك الكتب غزيرة ودقيقة وكأنه يحفظ خريطة العرب الثقافية من الخليج إلى المغرب، أما معرفته ببيروت فكان يتجول فيها وكأنه يتجول فى وسط البلد وأتذكر أننا دخلنا لمطعم تمتلكه سيدة اسمها وردة وفوجئت باحتفائها بسعد هجرس وحكاياتها عن صديقه الراحل والد الزميل يوسف الحسينى، شاهدت دموعها وهى تبكى وتنفعل حين تحكى عن تمزق لبنان، والغريب أنها من فرط فرحها بسعد هجرس وعرفاناً لذكرى صديقه رفضت أن ندفع حساب الغداء وعزمتنا وأوصتنا بتوصيل السلام لمصر والمصريين. كنت أتعمد الإنصات استمتاعاً بجرس صوت سعد هجرس الرخيم الجميل وهو يحكى، وأقتنص الفرصة لأختلى به منفرداً وكأننى أستمع لعبدالوهاب، وجدته يبكى ودموعه تسبقه حين أسمعته من الموبايل أغنية بوابة الحلوانى لصديق عمره سيد حجاب، عرفت كم يحب هذا الرجل مصر. عاطفة الأبوة كانت لديه جارفة، كنا فى التلفريك معاً فوق جبال بيروت عندما تلقى مكالمة من ابنته، تحول إلى طفل، حكى لى عن معاناة زوجته مع مرض السرطان وكيف كان لزاماً عليه أن يتحول إلى أب وأم. عندما وصلنا مطار القاهرة وجدنا طابوراً طويلاً، وبرغم إرهاقه وبرغم أننا وجدنا مطربة ومذيعة لبنانية كانت تقدم برنامجاً على قناة الحياة يستثنونها من الطابور ويفتحون لها الأبواب ويعرضون على هجرس أن يستثنوه هو الآخر، فإنه رفض وظل معنا حوالى ساعتين فى الطابور. رحم الله هذا الرجل العظيم الذى ندمت على أننى لم أتعرف عليه إلا منذ فترة قريبة لم تكفِ لأتعلم منه أكثر وأكثر.